فصل: مسألة صلى مع الإمام يوم الجمعة ركعة ثم رعف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة أم قوما فصلى بهم ركعتين ثم أحدث فقدم رجلا:

وقال في رجل أم قوما فصلى بهم ركعتين، ثم أحدث فقدم رجلا، فقال المقدم: إني شككت في سجدتين من الركعة الثانية، ولا أدري أسجدتهما أم لا؟ والقوم شاكون بشكه، أو بعضهم يتيقن أنهما من الركعة الثانية، وبعضهم يقول سجدة واحدة من الأولى، وسجدة من الركعة الثانية. قال: يسجدهما الثاني فتتم له ركعة ويسجد معه من كان شك بشكه؛ وأما من أيقن أنهما من الأولى فلا يسجدهما، وتسجدهما الطائفة التي زعمت أن إحداهما من الأولى، والأخرى من الثانية مع الإمام الداخل، فتتم له ركعة، وتبطل عليه الأولى، ثم يبني عليها الإمام؛ فإذا فرغ الإمام، سلم وقامت الطائفة التي زعمت أنهما من الأولى، فتأتي بركعة.
قال محمد بن رشد: المسألة كلها صحيحة، إلا قوله وتسجدهما الطائفة التي زعمت أن إحداهما من الأولى، والأخرى من الثانية، فليس بصحيح؟ إنما ينبغي أن يسجدوا معه منهما الواحدة، ثم يقضوا ركعة بعد سلام الإمام، كما تفعل الطائفة التي زعمت أنها من الأولى- وبالله التوفيق.

.مسألة أم قوما فتعايا في قراءته:

قيل لسحنون: أرأيت رجلا أم قوما فتعايا في قراءته، ففتح عليه رجل فلم يهتد الإمام لما فتح عليه، فتقدم الفاتح إلى الإمام فوقف معه في موضعه، فقرأ بهم حتى فرغ من السورة- والإمام قائم في القبلة منصت حتى ركع بهم الركعة التي بقيت عليهم، ثم سلم بهم الأول الفاتح عليه ومن خلفه بصلاة الإمام الأول؛ فقال: ما أرى صلاتهم كلهم الفاتح على الإمام، وغير الفاتح إلا فاسدة.
قال محمد بن رشد: وهذا بين- كما قال؛ لأنهم ائتموا بمأموم في حكم الإمام، ففسدت صلاتهم أجمعين.

.مسألة نسي خمس صلوات مختلفات من خمسة أيام:

وسئل عمن نسي خمس صلوات مختلفات من خمسة أيام، لا يدري أي الصلوات هي؟ قال سحنون: يصلي صلاة خمسة أيام.
قال محمد بن رشد: هذا على القول المشهور في المذهب من اعتبار التعيين في الأيام، وقد مضى تحصيل القول في ذلك في رسم أوصى أن ينفق على أمهات أولاده من سماع عيسى، فمن أحب الوقوف عليه تأمله- هناك- وبالله التوفيق.

.مسألة صلى مع الإمام يوم الجمعة ركعة ثم رعف:

وسئل سحنون عن رجل صلى مع الإمام يوم الجمعة ركعة ثم رعف فخرج يغسل الدم عنه، فلما غسل الدم عنه، حال بينه وبين الانصراف إلى المسجد واد أو أمر غالب؛ قال: يضيف إليها ركعة أخرى ثم يقوم فيصلي ظهرا أربعا.
قال محمد بن رشد: وهذا- كما قال؛ لأن من شرط الجمعة أن تكون في المسجد، فإذا لم يقدر على الرجوع إليه، بطلت الجمعة، وخرج عن نافلة، وصلى ظهرا أربعا، وقد مضى في رسم سن من سماع ابن القاسم- ما فيه بيان لهذه المسألة، فقف على ذلك.

.مسألة صلي مع الإمام فيسجد قبله ويركع قبله:

قيل لسحنون أرأيت الرجل يصلي مع الإمام فيسجد قبله، ويركع قبله في صلاته كلها؛ قال: صلاته تامة- وقد أخطأ- ولا إعادة عليه ولا يعد.
قال محمد بن رشد: وهذا إذا سجد قبله وركع قبله فأدركه الإمام بسجوده وركوعه- وهو راكع وساجد، فرفع برفعه من الركوع والسجود، أو رفع قبله، وأما إن ركع ورفع- والإمام واقف قبل أن يركع، وسجد ورفع من السجود أيضا قبل أن يسجد الإمام؛ ثم لم يرجع مع الإمام في ركوعه وسجوده، وفعل ذلك في صلاته كلها، فلا صلاة له؛ واختلف إن فعل ذلك في ركعة واحدة، أو سجدة واحدة، فقيل تجزئه الركعة وقيل لا تجزئه وقد بطلت عليه، فيأتي بها بعد سلام الإمام، فإن لم يفعل بطلت صلاته؛ وقد مضى في رسم باع شاة من سماع عيسى ما يدل على هذا الاختلاف، فتدبر ذلك- وبالله التوفيق.

.مسألة رجل في جواره مسجد فتجاوزه إلى غيره:

وسئل عن رجل في جواره مسجد فتجاوزه إلى غيره، قال: إن كان إلى المسجد الجامع، فلا بأس به، وإن كان إلى غير ذلك، لم أر أن يجاوزه إلى غيره، إلا أن يكون إمامه غير عدل.
قال محمد بن رشد: قد روي عن مالك مثل هذا، وهو يدل على ما ذهب إليه ابن حبيب: أن الصلاة في المسجد الجامع بخمسة وسبعين صلاة، فهي أفضل من الصلاة في سائر المساجد والجماعات؛ خلاف ما ذهب إليه غيره من استواء الفضيلة في جميع المساجد، والجوامع، والجماعات؛ على ظاهر قول النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءا، أو سبعة وعشرين جزءا». ولم يخص جماعة من جماعة، ولا مسجدا من مسجد، وبالله التوفيق.

.مسألة الطحال هل يجوز للخراز أن يبطن به الخف:

قلت لسحنون: أرأيت الطحال هل يجوز للخراز أن يبطن به الخف؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: الطحال حكمه حكم اللحم، لا حكم الدم؛ روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «أحلت لنا ميتتان، ودمان: الحوت والجراد، والطحال والكبد.» فهو وإن جاز للخراز أن يبطن به من أجل أنه طاهر ليس بنجس، إذ ليس بدم، فهو يكره من ناحية أن له حرمة الطعام، وقد مضى هذا من قول مالك في رسم حلف من سماع ابن القاسم- وبالله التوفيق.

.مسألة الإمام يسر في الجمعة عامدا أو جاهلا:

وقال في الإمام يسر في الجمعة عامدا أو جاهلا فعليه الإعادة في قول علي بن زياد، وأما قول مالك فلا يعيد، وإن كان ناسيا- سجد.
قال محمد بن رشد: قد اختلف قول مالك في إيجاب الإعادة على من ترك الجهر في صلاته- متعمدا، وفي إيجاب السجود على من سها عن ذلك؟ وقد مضى ذكر ذلك في أول رسم من سماع أشهب في رسم حمل صبيا من سماع عيسى، فمن لم ير في ذلك السجود في السهو ولا الإعادة في العمد، جعله من مستحبات الصلاة لا من سننها- وبالله التوفيق.

.مسألة العراة يكون معهم ثوب واحد:

قال ابن القاسم في العراة يكون معهم ثوب واحد، إنهم يصلون به أفذاذا واحدا، واحدا، ولا يجمع بهم إمامهم ليلا كان أو نهارا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ستر العورة في الصلاة واجب على الأعيان، فرض من فرائضها، أو سنة من سننها- على الاختلاف في ذلك؛ والصلاة في الجماعة سنة على الكفاية، فترك الجماعة في الصلاة أولى من ترك ستر العورة فيها، وإن كان الثوب لأحدهم- ولم يكن فيه فضل عما يستر به عورته، لم يجبر على أن يعرى منه ويعطيهم إياه ليصلوا به؛ وأما إن كان فيه فضل عما يستر به عورته، فالواجب يجبر على ذلك؛ لأن المواساة إذا كانت تلزم في باب المعيشة، فهي في باب الدين ألزم- إن شاء تعالى، وبه سبحانه التوفيق.

.مسألة الأنعام إذا شربت من ماء غير طاهر هل تكون ألبانها طاهرة:

قيل لسحنون: أرأيت الأنعام إذا شربت من ماء غير طاهر، هل تكون ألبانها طاهرة؟ قال: لا- وهي نجسة. قال العتبي هي طاهرة، وهي بمنزلة النحل إذا أطعمت العسل الذي ماتت فيه فأرة.
قال محمد بن رشد: قول سحنون شذوذ في المذهب، إلا أن في كتاب الرضاع من المدونة ما ينحو إليه، وهو قوله في المراضع النصرانيات؛ وإنما غذاء اللبن مما يأكلن، وهن يأكلن الخنزير، ويشربن الخمر. وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة قرب آخر رسم الوضوء والجهاد، من سماع أشهب من كتاب الوضوء.

.مسألة أم أحدهما صاحبه ثم يحدث الإمام منهما فيستخلف صاحبه:

قال أبو زيد: وسئل أصبغ عن رجلين أم أحدهما صاحبه ثم يحدث الإمام منهما، فيستخلف صاحبه؛ قال أصبغ: لا يجوز له أن يبني على الصلاة؛ لأنه ليس معه آخر، فيكون خليفة على نفسه، لا يجوز له، ويقطع ويبتدئ ولا يجوز أن يبني، استخلفه أو لم يستخلفه.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز له أن يبني، وقال: إنه يقطع ويبتدئ؛ لأنه ابتدأ في جماعة، فلم يجز له أن يتم وحده- على أصله فيمن وجب عليه أن يصلي في جماعة فصلى- فذًّا، أن صلاته لا تجزئه؛ وقد مضى هذا المعنى في رسم جاع، ورسم إن خرجت من سماع عيسى، فقف على ذلك وتدبره، وبالله التوفيق.

.مسألة الإمام يصلي بقوم صلاة كسوف فتنجلي الشمس وهو في الصلاة:

وسئل أصبغ عن الإمام يصلي بقوم صلاة كسوف، فتنجلي الشمس- وهو في الصلاة، وقد عقد ركعة ولم يسجد، قال أصبغ: يقضي صلاته على سنتها حتى يفرغ منها، ولا ينصرف منها إلا على شفع.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأنها صلاة، فإذا دخل فيها لم يصح له أن يقطعها من غير عذر حتى يتمها على سنتها- قياسا على سائر الصلوات؛ خلافا لمن شذ فقال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما ركع ركعتين في ركعة لينظر إذا رفع هل انجلت الشمس أم لا؟ وهذا التأويل يبطل بأنه إنما صلى في المسجد، لا في الصحراء، وبالله التوفيق.

.مسألة صلى المغرب بقوم في الخوف فصلى بكل طائفة منهم ركعة وأتم القوم لأنفسهم:

قال أصبغ في إمام صلى بقوم صلاة المغرب في الخوف، فجهل فصلى فجعل القوم ثلاث طوائف، فصلى بكل طائفة منهم ركعة، وأتم القوم لأنفسهم؛ أرى صلاة الإمام، والأوسطين، والآخرين، تامة؛ وأرى صلاة الأولين فاسدة، وذلك أنهم قضوا ركعتين تامتين في غير موضع قضاء؛ لأن السنة كانت أن يصلي بالطائفة الأولى ركعتين، ثم يتمون لأنفسهم؛ فلما صلى بهم ركعة، ثم صلوا هم بقية صلاتهم دونه؛ كانوا قد صلوا ركعة واحدة من صلاة الإمام بلا إمام، فلذلك فسدت صلاتهم، وأجزأت الآخرين والأوسطين؛ لأن الأوسطين كأنهم دخلوا في صلاة الأولين، فأدركوا من صلاتهم ركعة، فصلوا معهم، ثم قضوا لأنفسهم؛ وأما الآخرون فصلى بهم ركعة- كما كان ينبغي له أن يفعل. قلت: فلو كانت صلاته هذه ظهرا، أو خوفا في حضر- فجهل الإمام فجعل القوم أربع طوائف، وصلى بكل طائفة ركعة، قال أصبغ: تجزئ الإمام الصلاة، والطائفة الثانية، والرابعة، وتفسد صلاة الطائفة الأولى والثالثة- على هذا المثال الذي فسرت لك.
قال محمد بن رشد: مثل هذا حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف، وابن الماجشون أيضا؛ وقال سحنون في كتاب ابنه: تفسد الصلاة عليه وعليهم أجمين؛ لأنه ترك سنة الصلاة وقام في غير موضع قيام؛ وينبغي أن تفسد صلاة الطائفة الثانية إن كانوا أتموا صلاتهم قبل سلام الإمام- على مذهب من يرى أن الركعة الأولى التي هي قضاء، لا يصلونها إلا بعد سلام الإمام، وهو قول ابن القاسم، وأحد قولي سحنون، وقد مضى القول على ذلك- موعبا في سماع سحنون، فقف عليه- وبالله التوفيق.

.مسألة تيمم فصلى بتيممه المغرب والعشاء والصبح:

وقال في رجل تيمم فصلى بتيممه المغرب والعشاء والصبح والظهر، أنه يعيد الصبح والظهر، ولا إعادة عليه للمغرب ولا للعشاء؛ وإن صلى الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء بتيمم واحد، أعاد الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ وإن كان تيممه للركعتين- ولم يكن تيمم للمكتوبة، أعاد الخمس صلوات كلها أبدا؛ وإن تيمم فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، أعاد المغرب والعشاء أبدا؛ فإن تيمم وصلى الظهر والعصر، ثم ذكر وهو في وقت صلاة العصر- أعاد العصر، ووقتها إلى أن يكون ظلك مثليه، ووقت العشاء الآخرة إلى نصف الليل في التيمم، وهذا قول أصبغ، وقد قيل فيها إلى أن يغيب الشفق، وهو قول أبي ضمرة.
قال محمد بن رشد: قد اختلف فيمن صلى صلاتين بتيمم واحد على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يعيد الثانية أبدا، وقيل إنه لا يعيدها إلا في الوقت؛ وقيل إن كانتا مشتركتي الوقت، أعاد الثانية في الوقت؛ وإن لم تكونا مشتركتين، أعاد الثانية- أبدا؛ وقيل ما لم يطل قبل اليومين والثلاثة، وهو قول لا حظ له في النظر؛ واختلف أيضا في الوقت الذي يعيد الثانية من المشتركتين في الوقت، فقيل: ما لم تغب الشمس، وقيل ما لم يذهب وقتها المستحب، وهو وقت العصر ونصف الليل للعشاء الآخرة وهو قوله في هذه الرواية. وأما قول أبي ضمرة إن الوقت في ذلك إلى أن يغيب الشفق، فمعناه البياض لا الحمرة؛ لأن ذهاب الحمرة، هو أول وقتها المستحب؛ فيحتمل أن يكون أراد أن مغيب البياض هو آخر وقتها المستحب، لا معنى لقوله غير هذا؛ وقد ذكرنا في أول سماع أبي زيد من كتاب الوضوء المعنى الذي من أجله لم يجز للمتيمم أن يصلي صلاتين بتيمم واحد؛ وبينا وجهه بيانا شافيا، فمن أحب الوقوف عليه تأمله- هناك- وبالله التوفيق.
تم كتاب الصلاة الخامس بحمد الله، وبتمامه تم كتاب الصلاة.

.كتاب الجنائز:

.مسألة نزع الأردية في الجنائز:

كتاب الجنائز من سماع ابن القاسم من كتاب الرطب باليابس:
مسألة قال سحنون: أخبرني ابن القاسم؛ قال: سئل مالك عن نزع الأردية في الجنائز؛ قال: بئس العمل.
قال محمد بن رشد: معنى هذا أن ينحسر الرجل في جنازة أبيه أو أخيه فيتبعه حاسرا بغير رداء- قاله سحنون في نوازله من هذا الكتاب في بعض الروايات، وإنما كرهه مالك؛ لأنه من ناحية النعي المنهي عنه من فعل الجاهلية، لما فيه من إبداء الحزن والجزع للولي على ميته، ومن هذا المعنى ما يفعل عندنا من تبيض الولي على وليه، فهو مكروه من الفعل، لا يفعله إلا مخطئ. وقد استخف ابن حبيب أن ينحسر الرجل في جنازة من يختص به كأبيه الذي يحمل سريره على كاهله، وشبهه من قرابته؛ أو كالرجل الفاضل، أو العالم الذي يختص به ويعنى بأمره؟ وذلك خفيف- كما قال- إذا كان إنما يفعله من أجل حمله وما يتكلفه من التصرف في أمره، فقد فعله عبد الله بن عون في جنازة محمد بن سيرين، ومصعب بن الزبير- وهو أمير في جنازة الأحنف بن قيس؟ وحمل سعد بن أبي وقاص سرير عبد الرحمن بن عوف على كاهله، وفعله عمر بأسيد بن الحضير، وعثمان بأمه، وعبد الله بن عمر بأبي هريرة- وبالله التوفيق.

.مسألة يحمل الرجل الجنازة وينصرف ولا يصلي:

ومن كتاب القبلة:
مسألة قال ابن القاسم وسمعت مالكا يقول: من شهد جنازة فإني لا أرى أن ينصرف حتى يصلي عليها، إلا لحاجة أو علة.
قال محمد بن رشد: هذا مثل قوله- بعد هذا في رسم شك في طوافه: ليس هذا من الفعل أن يحمل رجل ولا يصلي. وقال في آخر سماع أشهب: لا بأس أن يحمل الرجل الجنازة وينصرف ولا يصلي، وذلك اختلاف من قوله: كره في سماع ابن القاسم لمن شهد جنازة أن ينصرف حتى يصلي عليها، ولم ير بذلك بأسا في سماع أشهب، والأصل في هذا الاختلاف اختلافهم في تخريج ما تعارض ظاهره من حديث النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في ثواب المصلي على الجنازة وتأويله، وذلك أنه روي عن النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أنه قال: «من جاء جنازة فتبعها من أهلها حتى يصلي عليها، فله قيراط، وإن مضى معها حتى تدفن فله قيراطان مثل أحد». وروي عنه أيضا أنه قال: «من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان». فذهب بعض الناس إلى أن الحديث الأول مبين للحديث الثاني؛ لأن راويه حفظ من ذكر اتباع الجنازة من أهلها، ما أغفله راوي الحديث الثاني؟ وذهب آخرون إلى أن المعنى في ذلك، أن الله كان كان تفضل بقيراط من الأجر لمن اتبع الجنازة من أهلها وصلى عليها، ثم تفضل بعد ذلك بالزيادة في الثواب فجعل في الصلاة على الجنازة خاصة قيراطا كاملا من الأجر، فمن ذهب إلى التأويل الأول، رأى أن الذي يصح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتصحيح الأثرين، أن القيراط من الثواب إنما يستحق باتباع الجنازة من أهلها، والصلاة عليها، يقع من ذلك لاتباعها من عند أهلها ما الله به أعلم، وللصلاة عليها ما الله به أعلم أيضا، ويجيء على مذهبه أنه لا ينبغي لمن شهد جنازة أن ينصرف دون أن يصلي عليها لئلا يبطل عمله في اتباعها، إذ جعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثواب ذلك مضمنا بالصلاة، فصار معها كشيء واحد، من شرع فيه لم ينبغ له أن يتركه حتى يتمه، لقول الله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]- فهذا وجه ما في هذا السماع من الكراهية لمن شهد جنازة أن ينصرف دون أن يصلي عليها، ومن ذهب إلى التأويل الآخر، رأى أن اتباع الجنازة ليس بمرتبط بالصلاة عليها، إذ قد تفضل الله لمن صلى عليها بقيراط كامل من الأجر، ولمن اتبعها من أهلها بما هو أعلم به من الأجر، ويجيء على مذهبه: أن لمن اتبع الجنازة من أهلها، أن ينصرف دون أن يصلي عليها لانفصال اتباع الجنازة عنده عن الصلاة عليها، وبينونة كل واحد منهما عن صاحبه بحظه من الأجر؟ كما أن لمن صلى عليها أن ينصرف دون أن يشاهد دفنها، أو يصلي على غيرها؛ لانفصال الدفن عن الصلاة ببينونة كل واحد منهما عن صاحبه بحظه من الأجر، كما تنفصل الجنازة عن غيرها؛ فهذا وجه رواية أشهب عن مالك في أن لمن اتبع الجنازة أن ينصرف دون أن يصلي عليها، وهذا إذا كان ممن لا يقتدى به، وأمن من أن يظن به اعتقاد سوء في نفسه، أوفي الميت؟ ويشهد لهذا القول ما روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من اتبع جنازة وحملها ثلاث مرار، فقد قضى ما عليه من حقها». وهو حديث غريب ذكره الترمذي في مصنفه.

.مسألة الغسل على من غسل ميتا:

قال مالك: أرى على من غسل ميتا أن يغتسل، قال ابن القاسم ولم أره يأخذ بحديث أسماء بنت عميس، ويقول: لم أدرك الناس إلا على الغسل. قال ابن القاسم وهو أحب ما سمعت فيه إلي.
قال سحنون حدثني أنس بن عياض، عن محمد بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من غسل ميتا فليغتسل».
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية إيجاب الغسل على من غسل ميتا- للحديث المذكور، ولمالك في المختصر أن ذلك مستحب وليس بواجب، وقول ابن القاسم: وهو أحب ما سمعت فيه إلي- حمله ابن أبي زيد وغيره على أنه استحب الغسل، مثل قول مالك في المختصر. والظاهر عندي منه أنه إنما استحب القول بإيجاب الغسل، فهو مثل روايته عن مالك، وقد قيل إنه لا غسل عليه، وهو قول مالك في الواضحة، وعليه الجمهور؛ وهو الذي يوجبه النظر والقياس على الأصول؛ لأن غسل الميت ليس بحدث ينقض الطهارة مثل الجنابة؛ بدليل إجماعهم على أنه لا غسل على من غسل ما سوى الميت من الأشياء الطاهرة، أو النجسة؛ فمن أوجب الغسل جعل أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به عبادة لا لعلة، وحمله على مقتضاه من الوجوب، ومن استحبه ولم يوجبه، جعل أمر النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- به لعلة؛ واختلفوا ما هي؟ فمنهم من قال إنه إنما أمره بالغسل ليبالغ في غسل الميت؛ لأنه إذا غسل الميت- موطنا على الغسل، لم يبال بما ينتضح عليه منه، فكان سببا لمبالغته في غسله؛ ومنهم من قال ليس معنى أمره بالغسل، أن يغسل جميع جسده كغسل الجنابة؛ وإنما معناه أن يغسل ما باشره به، أو انتضح عليه منه؛ لأنه ينجس بالموت، وإلى هذا ذهب ابن شعبان، فقال: لا يدخل الميت في المسجد؛ لأنه ميتة، وإليه ذهب محمد بن عبد الحكم في قوله: أنه ينجس الثوب الذي يجفف به الميت بعد غسله، خلاف قول سحنون في نوازله من بعض روايات العتبية؛ وهو دليل قول ابن القاسم في كتاب الرضاع من المدونة أن لبن المرأة الميتة الذي في ضرعها ينجس بموتها، لنجاسة الوعاء، فلا يحل شربه.
والصحيح أن الميت من بني آدم ليس بنجس، بخلاف سائر الحيوان التي لها دم سائل؛ لأن عدم الروح من الحيوان ليس بعلة في النجاسة، إذ قد يعدم الروح بالذكاة فيما يؤكل من دواب البر، وبالموت في دواب البحر، فلا ينجس بذلك، فلما لم يكن عدم الروح من الحيوان علة في النجاسة، وجب ألا ينجس بالموت إلا ما يموت مما يحل أكله بذكاة، وهي الميتات؛ لأن الله تعالى سماها رجسا فقال: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} [الأنعام: 145] الآية- إلى قوله سبحانه: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]. والميت من بني آدم لا يسمى ميتة، فليس برجس ولا نجس، ولا حرم أكله لنجاسة، إذ ليس بنجس، وإنما حرم إكراما له؟ ألا ترى أنه لما لم يسم ميتة، لم يجز للمضطر أن يأكله بإباحة الله تعالى له أكل الميتة- على الصحيح من الأقوال، هذا من طريق النظرة وأما من طريق الأثر، فقد روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن المؤمن لا ينجس». وقال ابن عباس في البخاري: لا ينجس المسلم حيا ولا ميتا. وقال سعد بن أبي وقاص: لو كان نجسا ما مسسته. وسئلت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هل يغتسل من غسل ميتا؟ فقالت: أو أنجاس موتاكم؟ ولو كان نجسا ما أدخله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجد، وفي هذا كفاية. ومنهم من قال: إنما أمر أن يغتسل- توقيا لما عسى أن يصيبه من أذى الميت، إذ يخاف ألا يكون طاهرا من النجاسة، لا أن ذاته نجسة، وقد يحتمل أن يتأول في قوله عَلَيْهِ السَّلَامُ: «من غسل ميتا فليغتسل»، ما يتأول لا قوله: «ومن حمله فليتوضأ». فيكون المعنى في ذلك أن يغتسل لاغتساله- إن كان غير طاهر، لئلا يغسله- وهو جنب، ومما يدل أن الاغتسال من غسل الميت مستحب غير واجب، حديث أسماء بنت عميس، إذ لو كان الغسل عليها واجبا، لما سقط عنها لشدة البرد، ولوجب أن تتيمم- إن خشيت على نفسها الموت- الله أعلم.

.مسألة يغسل الجنب الميت:

قال مالك: لا أحب للجنب أن يغسل الميت حتى يغتسل؛ لأن أمره يسير، ولا بأس بالحائض أن تغسل الميت.
قال محمد بن رشد: قد روى ابن نافع عن مالك أنه لا بأس أن يغسل الجنب الميت، وهو قول محمد بن عبد الحكم، وظاهر قول ابن القاسم في كتاب ابن عبدوس؛ والأظهر في ذلك الكراهة، لما جاء من أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه جنب، ولأنه يملك طهره؛ وقد يحتمل أن يدل على المنع، من ذلك قوله،- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «من غسل ميتا فليغتسل»- على ما ذكرناه قبل هذا مما يحتمله تأويل الحديث؛ فإن غسله وهو جنب، نقص أجره، ولم يأثم على القول بكراهية ذلك؛ لأن حد المكروه ما تركه أفضل- والله أعلم، وبه التوفيق.

.مسألة الشهداء تكون عليهم المناطق وقلانس محشوة قزا هل يدفنوا بها:

ومن كتاب أوله حلف ألا يبيع سلعة وسئل عن الشهداء تكون عليهم المناطق وقلانس محشوة قزا، أترى أن يدفنوا بها؟
قال: ما علمت أنه ينزع منهم شيء.
قال ابن القاسم ولا بأس أن يدفنوا في الخفين إذا أصيب- وهما عليه. وقال ابن نافع لا ينزع عنه فروه ولا خفاه. قال مطرف لا تنزع عنه منطقته، إلا أن يكون لها خطب، قال: وأما إن كان الذي فيها من الفضة يسيرا، فلا تنزع عنه؛ ولا ينزع خاتمه إلا أن تكون فضة لها خطب وبال.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم: لا بأس أن يدفنوا في الخفين إذا أصيب وهما عليه، يدل على أن نزعهما جائز، وكذلك المناطق والخواتم على قياس قوله؛ فهو خلاف قول مالك وابن نافع ومطرف؛ لأنهم ذهبوا إلى ألا ينزع عنهم شيء مما هو في معنى اللباس- وإن لم يكن من الثياب قياسا على الثياب حاشا دروع الحديد؛ لأنها من السلاح؛ وذهب ابن القاسم إلى أنه ينزع عنهم ما عدا الثياب، تعلقا بظاهر قوله- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: زملوهم بثيابهم، فهذا وجه أقوالهم- والله تعالى أعلم.

.مسألة رجل مرت به جنازة وهو على غير وضوء:

ومن كتاب أوله شك في طوافة:
مسألة وسئل مالك: عن رجل مرت به جنازة وهو على غير وضوء، فأراد أن يحمل لموضع الأجر ولا يصلي؛ قال: ليس هذا من العمل أن يحمل رجل ولا يصلي، ولم يعجبه ذلك، وقال: ليس هذا من عمل الناس أن يحملوا على غير وضوء.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم القبلة وجه الكراهية في أن يحمل ولا يصلي، وإنما كره له أن يحمل على غير وضوء، من أجل أنه لا يصلي، ولو علم أنه يجد في موضع الجنازة ماء يتوضأ به، لم يكره أن يحمل على غير وضوء، وقد روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ». ومعنى قوله عندهم من حمله فليتوضأ أي ليتوضأ إذا أراد أن يحمله كي يصلي عليه إذا حمله، لا أن حمله ينقض طهارة من كان متوضئا.

.مسألة تعزية المسلم يهلك أبوه وهو كافر:

وسئل مالك عن الرجل المسلم يهلك أبوه وهو كافر، افترى أن يعزيه به فيقول: آجرك الله في أبيك؟ قال لا يعجبني أن يعزيه به، لقول الله تعالى في كتابه العزيز: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]. فلم يكن لهم أن يرثوهم وقد أسلموا حتى يهاجروا، ومنعهم الله الميراث- وقد أسلموا حتى يهاجروا.
قال محمد بن رشد: ما ذهب إليه مالك في هذه الرواية من أن المسلم لا يعزى بأبيه الكافر، ليس ببين؛ لأن التعزية بالميت تجمع ثلاثة أشياء: أحدها تهوين المصيبة على المعزى وتسليته منها، وتحضيضه على التزام الصبر، واحتساب الأجر، والرضى بقدر الله، والتسليم لأمره. والثاني الدعاء له بأن يعوضه الله من مصابه جزيل الثواب، ويحسن له العقبى والمئاب. والثالث الدعاء للميت والترحم عليه، والاستغفار له، فليس تحظير الدعاء للميت الكافر، والترحم عليه، والاستغفار له، لقوله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113]- الآية- بالذي يمنع من تعزية ابنه المسلم بمصابه به، إذ لا مصيبة على الرجل أعظم من أن يموت أبوه الذي كان يحن عليه، وينفعه في دنياه- كافرا، فلا يجتمع به في أخراه، فتهون عليه مصيبته، ويسليه منها، ويعزيه فيها بمن مات للأنبياء الأبرار- عليهم السلام- من القرابة، والآباء الكفار؛ ويحضه على الرضى بقدر الله، ويدعو له في جزيل الثواب إلى الله؟ إذ لا يمنع أن يؤجر المسلم بموت أبيه الكافر، إذا شكر الله، وسلم لأمره، ورضي بقضائه وقدره، فقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يزال المسلم يصاب في أهله وولده وحامته، حتى يلقى الله- وليست له خطيئة». ولم يفرق بين مسلم وكافر، وهل يشك أحد في أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجر بموت عمه أبي طالب، لما وجد عليه من الحزن والإشفاق؛ وقد روي عن مالك رَحِمَهُ اللَّهُ أن للرجل أن يعزي جاره الكافر بموت أبيه الكافر، لذمام الجوار، فيقول له- إذا مر به: بلغني الذي كان من مصابك بأبيك، ألحقه الله بكبار أهل دينه، وخيار ذوي ملته. وقال سحنون إنه يقول له: أخلف الله لك المصيبة، وجزاك أفضل ما جازى به أحدا من أهل دينه. فالمسلم بالتعزية أولى، وهو بذلك أحق وأحرى. والآية التي احتج بها مالك لما ذهب إليه من ترك التعزية بالكافر، منسوخة؟ قال عكرمة: أقام الناس برهة لا يرث المهاجر في الأعرابي، ولا الأعرابي المهاجر؟ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]- الآية، حتى نزلت: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأحزاب: 6]. فاحتج بالمنسوخ كما احتج لما اختاره من الإطعام في كفارة الفطر في رمضان بقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184]- الآية، وهي منسوخة؟ وذلك إنما يجوز على القول بأن الأمر إذا نسخ وجوبه، جاز أن يحتج به على الجواز، وفي ذلك بين أهل العلم اختلاف، واعتلاله بامتناع الميراث ضعيف، إذ قد يعزى الحر بالعبد- وهما لا يتوارثان، ولو استدل على ما ذهب إليه من أن المسلم لا يعزى بالكافر، بقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]. وبقوله عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [المجادلة: 22]- الآية، لكان أظهر وإن لم يكن ذلك دليلا قاطعا، للمعاني التي ذكرناها، وبالله التوفيق.